الفهرس
عاشت فلسطين العثمانية حقبة زمنية طويلة امتدت لنحو 400 عام تحت راية الدولة العثمانية، وهي فترة تميزت بالاستقرار النسبي والتناغم الاجتماعي مقارنة بما تلاها من أحداث. بدأت هذه الحقبة بدخول العثمانيين فلسطين عام 1516 واستمرت حتى الحرب العالمية الأولى، حيث أولى سلاطين آل عثمان اهتمامًا خاصًا بهذه الأرض المقدسة.

نبذة عن فلسطين العثمانية
شهدت فلسطين تحت الحكم العثماني فترات طويلة من الازدهار والسلام. وقد أولت الإدارة العثمانية أهمية قصوى لمدينة القدس، نظرًا لمكانتها الدينية الرفيعة كأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، فعملت على تطوير بنيتها التحتية ورعاية مقدساتها.
طبقت الدولة العثمانية نظام “الملل”، الذي ضمن حرية الممارسة الدينية في الأماكن المقدسة. حرص العثمانيون على عدم التدخل في شؤون الطوائف الدينية الداخلية، مما سمح لمختلف المعتقدات بالتعايش جنبًا إلى جنب تحت مظلة القانون العثماني.
بذلت الدولة جهودًا حثيثة للحفاظ على الأمن والاستقرار في فلسطين، مستخدمة في ذلك كافة الوسائل الإدارية والعسكرية والاقتصادية المتاحة لضمان رفاهية السكان وحماية طرق الحج والتجارة.
الفتح العثماني لفلسطين
دخلت فلسطين رسميًا تحت الحكم العثماني بعد انتصار السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق الشهيرة عام 1516، منهيًا بذلك حكم المماليك. وقد استكمل ابنه السلطان سليمان القانوني تنظيم المنطقة وتحصينها.
كانت أولى وأهم أعمال الدولة العثمانية بعد الفتح هي مشاريع الإعمار الكبرى، ومن أبرزها:
- إعادة بناء أسوار القدس الحالية (سور سليمان القانوني) لحماية المدينة.
- تجديد وترميم قبة الصخرة المشرفة بالفسيفساء القاشاني.
- ترميم مقام النبي داوود وتحسين مرافق المياه في القدس.
وضع فلسطين في العهد العثماني
التقسيم الإداري وتطور الحدود
تطور التقسيم الإداري لفلسطين عدة مرات، حيث ضمت أراضيها عدة سناجق (مقاطعات) أبرزها: سنجق القدس، سنجق نابلس، وسنجق عكا. وفي مرحلة متأخرة، استقر التقسيم الإداري ليتبع شمال فلسطين ولاية بيروت (التي تأسست عام 1888)، بينما حظي الجنوب بوضع خاص.
في خطوة تاريخية حاسمة عام 1872 (وليس 1887 كما يشاع خطأً)، أسس العثمانيون “متصرفية القدس الشريف المستقلة”. كانت هذه المتصرفية تابعة مباشرة للباب العالي في إسطنبول، مما يعكس إدراك الدولة للأهمية الاستراتيجية والدينية للقدس في مواجهة الأطماع الاستعمارية.
كما شهد عام 1906 ترسيم الحدود بين الدولة العثمانية ومصر (الخاضعة آنذاك للإدارة البريطانية)، وهو ما حدد خط رفح-طابا الذي يشكل اليوم الحدود الجنوبية لقطاع غزة وفلسطين التاريخية.


سكان فلسطين: حقائق ديموغرافية
شكل العرب المسلمون الأغلبية الساحقة لسكان فلسطين طوال العهد العثماني. وفقًا لبيانات تعداد عام 1878، بلغ عدد الرعايا العثمانيين في مناطق القدس ونابلس وعكا نحو 462,465 نسمة، حيث شكل المسلمون ما يقارب 87%، والمسيحيون حوالي 9%، بينما لم تتجاوز نسبة اليهود 3%.
وبحلول عام 1914، تشير التقديرات البحثية إلى أن عدد السكان ارتفع ليصل إلى حوالي 738,000 نسمة، مع بقاء الأغلبية العربية واضحة المعالم. عاش السكان السنة والشيعة والدروز في نسيج اجتماعي متداخل.
اعتمد الاقتصاد الفلسطيني بشكل رئيسي على الزراعة، وتوارثت العائلات الأراضي جيلًا بعد جيل. وقد شكل قانون الأراضي العثماني لعام 1858 نقطة تحول كبرى، حيث ألزم بتسجيل الأراضي وإصدار صكوك ملكية (طابو)، وهي الوثائق التي لا تزال تشكل سندًا قانونيًا قويًا لإثبات الملكية الفلسطينية حتى يومنا هذا.

التسامح الديني والأقليات
حافظ العثمانيون على “الوضع الراهن” (Status Quo) في الأماكن المقدسة، وهو نظام دقيق لتقاسم الحقوق بين الطوائف المسيحية في كنيسة القيامة وغيرها. استمر العمل بفرمانات السلاطين التي منحت المسيحيين حقوق إدارة كنائسهم وأوقافهم بأمان، اقتداءً بالعهدة العمرية.
تدخلت الدولة وفضت النزاعات بين الكاثوليك والأرثوذكس والأرمن وغيرهم، لضمان ممارسة الشعائر بسلام. كما اعترفت الإدارة العثمانية بالوجود اليهودي التقليدي (السفارديم والأشكناز المتدينين)، وسمحت لهم بترميم معابدهم، مثل إعادة بناء كنيس “الخراب” في القدس القديمة، طالما التزموا بقوانين الدولة.

فلسطين العثمانية ومواجهة الصهيونية
مع ظهور الحركة الصهيونية ومحاولاتها تغيير الطبيعة الديموغرافية لفلسطين، اتخذ السلطان عبد الحميد الثاني موقفًا صلبًا. حاولت الحركة بقيادة ثيودور هرتزل إغراء السلطان ماليًا لسداد ديون الدولة العثمانية مقابل السماح بهجرة اليهود واستيطانهم.
قدم هرتزل عرضًا ماليًا ضخمًا بلغ 20 مليون جنيه إسترليني (وهو مبلغ هائل تقدر قوته الشرائية اليوم بنحو 2.9 مليار جنيه إسترليني، أو ما يعادل 20.2 مليار دولار أمريكي بحساب قيمة الذهب في ديسمبر 2025). رغم ضخامة المبلغ وحاجة الدولة الماسة للمال، رفض السلطان عبد الحميد العرض قائلًا عبارته الشهيرة: “لا أستطيع أن أبيع ولو شبرًا واحدًا من هذه الأرض، لأنها ليست ملكي بل ملك أمتي”.
اتخذت الدولة إجراءات صارمة لمكافحة الهجرة غير الشرعية، منها:
- حظر بيع الأراضي للمهاجرين اليهود الأجانب.
- فرض “التذكرة الحمراء” التي تسمح بزيارة القدس لفترة محدودة فقط (شهر واحد).
- منع اليهود الأجانب من الاستيطان في فلسطين تحديدًا، مع السماح لهم باللجوء إلى أي ولاية عثمانية أخرى هربًا من الاضطهاد الأوروبي.

بعد عزل السلطان عبد الحميد عام 1909 وصعود جمعية الاتحاد والترقي، حدث تراخٍ مؤقت في تطبيق القيود، مما سمح بزيادة وتيرة الهجرة وشراء الأراضي عبر وسطاء. ولكن سرعان ما عاد الاتحاديون لمحاولة ضبط الأمور بعد إدراكهم لخطورة المشروع الانفصالي الصهيوني، إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى خلط الأوراق.

نهاية الحكم العثماني وبداية الانتداب
شهدت الحرب العالمية الأولى نهاية الوجود العثماني في الشام. دافع الجيش العثماني عن فلسطين في معارك ضارية مثل معارك غزة الثلاث، لكنه خسر في النهاية أمام القوات البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي.
سقطت القدس في ديسمبر 1917، ليدخلها اللنبي مشيًا على الأقدام، منهيًا بذلك 400 عام من الحكم العثماني. ومع بداية الإدارة العسكرية البريطانية، تم خرق مبدأ “الوضع الراهن” وبدأت خطوات تنفيذ وعد بلفور، مما أسس لمرحلة جديدة من الصراع المستمر.
اعترف رونالد ستورز، أول حاكم عسكري للقدس، بأن الإدارة البريطانية خرقت القواعد العثمانية المستقرة، وعاملت فلسطين بشكل مغاير عن مصر، من خلال تسهيل المشروع الصهيوني وتغيير هوية البلاد.
كنز الوثائق العثمانية: الحقيقة الدامغة
تعتبر الأرشيفات العثمانية اليوم المصدر الأهم لإثبات الحقوق التاريخية في فلسطين. في تطور هام عام 2020، سلمت تركيا للسلطة الفلسطينية نسخة إلكترونية ضخمة تضم أكثر من 38,000 ملف من سجلات الطابو (سجل الأراضي)، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الوثائق الإدارية.
تُستخدم هذه الوثائق اليوم بشكل فعال في المحاكم لإثبات ملكية الفلسطينيين للأراضي والعقارات في القدس والضفة الغربية ومواجهة محاولات المصادرة والاستيطان، حيث توثق بدقة متناهية أسماء الملاك وحدود الأراضي منذ القرن التاسع عشر.






