الفهرس
يُعد السلطان مراد الخامس أحد أكثر سلاطين الدولة العثمانية إثارة للجدل؛ فهو سلطان مثقف ذو ميول إصلاحية، حكم الإمبراطورية لمدة 93 يومًا فقط بين 30 مايو 1876 و31 أغسطس 1876، ويُذكر أنه أول وأشهر أفراد الأسرة العثمانية انتسابًا إلى الماسونية. وحتى اليوم (2025) ما يزال تداخل مسيرته السياسية مع حالته النفسية وانتمائه الماسوني موضوعًا لنقاش واسع بين المؤرخين.
تولى السلطان مراد الخامس العرش بعد خلع عمه السلطان عبد العزيز، لكن فترة حكمه القصيرة انتهت سريعًا بعد صدمة نفسية حادة أعقبت وفاة عمه في ظروف غامضة، لتُعلن عدم أهليته للحكم بدعوى إصابته بانهيار عصبي، في حين يرى عدد من الباحثين المعاصرين أن هذه الحجة استُخدمت أيضًا كذريعة سياسية لإقصائه عن العرش.

نسب وعائلة السلطان مراد الخامس
ينتسب السلطان مراد الخامس إلى السلالة العثمانية الحاكمة، واسمه الكامل حتى أرطغرل غازي على النحو الآتي:
هو السلطان مراد الخامس بن عبد المجيد الأول بن محمود الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان الأول بن أرطغرل.
نشأة السلطان مراد الخامس وتعليمه
وُلد مراد الخامس عام 1840 في قصر طوب قابي في إسطنبول، وهو الابن البكر للسلطان عبد المجيد الأول. انتقل لاحقًا إلى قصر تشيراغان على البوسفور، حيث نشأ وتلقى تعليمه الأساسي.
حفظ مراد أجزاء من القرآن الكريم، وتعلّم اللغة العثمانية والحديث الشريف، إلى جانب اللغة الفرنسية التي أتقنها على يد معلمين بارزين من نخبة الدولة. وتشير المصادر إلى أن أدهم باشا تولّى تعليمه الفرنسية، بينما علّمه الأستاذ عمر أفندي الأدبين الفرنسي والتركي، وفنون البلاغة والخطابة، ما جعله من أكثر الأمراء ثقافة في عصره.
امتلك مراد الخامس ميلًا واضحًا إلى الأدب والشعر والكتابة، كما أولع بالموسيقى الكلاسيكية، وتعلّم العزف على البيانو وألّف عددًا من المقطوعات الموسيقية. ولمن يرغب في فهم أوسع لخلفية التعليم في تلك المرحلة، يمكن الرجوع إلى مقال المدرسة العثمانية.
اهتم الأمير الشاب بالعمارة والفنون، ويُذكر أنه أنفق مبالغ كبيرة على تهيئة الأماكن التي أقام فيها وتجديدها، وخاصة في قصر تشيراغان وبعض القصور التي نُقل إليها لاحقًا.
وفقًا لبعض الشهادات المعاصرة، كان مراد يميل إلى العزلة وقضاء ساعات طويلة في التفكير، وتصفه بعض المصادر بحالة من الذهول والكآبة كان يعيشها في فترات متكررة، وهي سمات نفسية ستنعكس لاحقًا بشكل واضح بعد اعتلائه العرش.
ولاية العهد والعلاقة مع السلطان عبد العزيز
شارك الأمير مراد مع عمه السلطان عبد العزيز في رحلته الشهيرة إلى أوروبا، كما زار قبله مصر التي كانت آنذاك جزءًا من مصر العثمانية. خلال الزيارة الأوروبية لفت مراد الأنظار في الأوساط السياسية والثقافية بفضل ثقافته العالية، وإجادته الفرنسية، وقدرته على العزف على الآلات الموسيقية، ما جعله محل تقدير لدى عدد من القادة الأوروبيين.
تذكر بعض المصادر أن الأمير مراد كان على تواصل فكري مع دعاة الإصلاح في الدولة، ومنهم أنصار الحكم الدستوري الذين عُرفوا بحركة العثمانيين الجدد، وأن تفكيره كان إصلاحيًا ومستنيرًا ومتأثرًا بالفكر الأوروبي والفرنسي على وجه الخصوص.
كما تشير مصادر متعددة إلى أن مراد الخامس انتسب سرًا إلى الماسونية قبل توليه العرش، وأن المحفل الماسوني نشط في إسطنبول في تلك السنوات. وتذكر بعض الروايات أنه اقترح إنشاء فرع ماسوني خاص في الدولة العثمانية باسم «الأنوار الشرقية» وإقامة الطقوس الماسونية باللغة التركية، غير أن هذه التفاصيل تحديدًا لا تحظى بتوثيق قاطع في المصادر المتاحة حتى عام 2025.
مع مرور الوقت ازداد توجس السلطان عبد العزيز من ولي عهده؛ فشدّد الرقابة عليه ومنعه من الخروج سيرًا على الأقدام، ولم يسمح له بالتنزه إلا في عربة مغلقة لا يراه منها الناس، وبإذن مسبق في كل مرة. كما خفّض مخصصاته المالية، ما اضطره إلى الاستدانة واللجوء إلى المرابين.
توضح بعض المصادر أن السلطان عبد العزيز وضع مراد وأشقّاءه لفترة تحت الإقامة الجبرية في قصر طولمة بهجة، ثم نقلهم إلى قصر «كوربغه لي دره» (Kurbağalıdere) بهدف قطع صلتهم بإسطنبول قدر الإمكان، وهو ما عمّق شعور الأمير مراد بالضيق والحصار النفسي.
في تلك الفترة، وأثناء تقلده ولاية العهد، يُذكر أن الأمير مراد طلب من محامٍ فرنسي إعداد مشروع دستور مستوحى من النماذج الأوروبية ليُطبّق في الدولة العثمانية عند توليه الحكم. ورغم أن الدستور العثماني الأول لم يُعلن إلا لاحقًا في ديسمبر 1876 في عهد أخيه السلطان عبد الحميد الثاني، فإن هذه الفكرة تعكس بوضوح ميوله الإصلاحية المبكرة.
فترة حكم السلطان مراد الخامس القصيرة
صعد السلطان مراد الخامس إلى العرش في 30 مايو 1876 بعد خلع عمه السلطان عبد العزيز، بدعم من رجال الدولة المطالبين بالحكم الدستوري وعلى رأسهم مدحت باشا. كان أنصار الإصلاح يعوّلون على ثقافة مراد الأوروبية واستعداده لقبول الإصلاحات ليكون وجهًا جديدًا للدولة في مرحلة حساسة من تاريخها.
لكن الأحداث تسارعت على نحو مأساوي؛ فبعد أيام قليلة من خلعه، عُثر على السلطان عبد العزيز ميتًا وجراحه تنزف، في واقعة لا تزال موضع جدل تاريخي. فبينما ترى رواية رسمية أنه انتحر متأثرًا بعزلِه وتدهور حالته النفسية، تشير روايات أخرى إلى احتمال تعرّضه للقتل في إطار مؤامرة سياسية خشي أصحابها من عودته إلى الحكم.
أحدثت وفاة عبد العزيز صدمة عميقة لدى مراد الخامس، الذي شعر بالذنب والخوف من أن يُتهم بالمسؤولية عن مقتل عمه، فدخل في حالة من الاضطراب النفسي الشديد. تصفه المصادر بأنه عاش حالة من الذهول والكآبة، وعانى من القلق وقلة النوم، وبدأ يتصرّف على نحو غير متزن، حتى إن بوادر الاختلال العقلي ظهرت عليه، وقيل إنه حاول في إحدى النوبات إلقاء نفسه في بركة مياه داخل القصر.
لم يتمكن السلطان مراد الخامس من الظهور أمام العامة أو إدارة شؤون الدولة بصورة طبيعية؛ إذ فقد القدرة أحيانًا على التركيز والتعرّف إلى كبار رجاله ووزرائه. واضطر الوزراء إلى تأجيل مراسم تقليد سيف عثمان، وكذلك اعتماد السفراء الأجانب، في ظل تدهور حالته النفسية.
استُدعي طبيب نمساوي متخصص في الأمراض العصبية لمعاينة السلطان، فأفاد في تقريره باستحالة شفائه في المدى المنظور من الانهيار العصبي الذي ألمّ به. وبناء على ذلك رُوّج رسميًا لعدم أهليته للحكم. ومع ذلك، تؤكد دراسات حديثة أن وصف حالته بالجنون الكامل كان على الأرجح مبالغًا فيه، وأن ذريعة المرض العقلي استُخدمت سياسيًا لتبرير عزله واستبداله بحاكم آخر أكثر قدرة، في نظر أصحاب القرار، على تمرير مشروع الدستور.
اتجه الوزراء وكبار رجال الدولة إلى الأمير عبد الحميد الثاني، الذي كان يتمتع بصحة نفسية وجسدية جيدة، طالبين منه قبول العرش. تردد عبد الحميد في البداية على أمل شفاء أخيه، لكن بعد اجتماع الأعيان والوزراء بشيخ الإسلام، صدرت فتوى تنص على عدم أهلية مراد الخامس للحكم، ليُعزل رسميًا في 31 أغسطس 1876 بعد 93 يومًا فقط من توليه العرش، ويتولى عبد الحميد الثاني الحكم.
بعد توليه السلطة بوقت قصير، وتحت تأثير مدحت باشا وأنصار الإصلاح، أعلن السلطان عبد الحميد الثاني الدستور العثماني الأول في ديسمبر 1876، وهو الدستور الذي كان الإصلاحيون يأملون أن يُعلن في الأصل في عهد مراد الخامس.

حياة السلطان مراد الخامس بعد عزله
بعد عزله نُقل مراد الخامس مع أسرته إلى قصر تشيراغان على ضفاف البوسفور، ووُضع تحت إقامة جبرية صارمة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. وتشير المصادر إلى أنه بعد نحو تسعة أشهر من الحبس بدأ يستعيد توازنه وقواه العقلية تدريجيًا، لكن ذلك لم يؤدِّ إلى رفع العزل عنه أو إعادته إلى الحكم.
شهد العامان الأولان من حبسه في تشيراغان عدة محاولات من أنصاره لتحريره وإعادته إلى العرش، انتهت جميعها بالفشل، بل وأدت إلى تشديد إجراءات العزل والحراسة حول القصر. ومن أبرز تلك المحاولات محاولة علي سوّافي الشهيرة، التي قُمعت بسرعة وعنف، فازداد السلطان عبد الحميد تشددًا في مراقبة مراد وأسرته.
أمضى مراد ما يقرب من 28 عامًا في قصر تشيراغان تحت الإقامة الجبرية، قضى معظمها في القراءة، ومطالعة الأدب الفرنسي والتركي، وممارسة الموسيقى، والتقرّب من أفراد أسرته. وعلى الرغم من تحسن حالته النفسية وفق عدد من الشهادات، لم يُسمح له بممارسة أي دور سياسي، وبقي اسمه مرتبطًا بمحاولات الانقلاب الفاشلة والخشية من استغلاله كورقة معارضة ضد السلطان عبد الحميد.
وفاة السلطان مراد الخامس وإرثه
توفي السلطان مراد الخامس، الذي كان يعاني من مرض السكري، في قصر تشيراغان في 29 أغسطس 1904. ونظرًا لحساسية وضعه السياسي السابق، أُقيمت جنازته دون إعلان واسع أو مراسم رسمية كبيرة.
تم تغسيل جسده وتكفينه في قصر طوب قابي، ثم نُقل إلى مسجد هدايت في بهجيكابي، وبعد الصلاة عليه في موكب محدود، دُفن بجوار والدته شفقزة سلطان في المسجد الجديد بإسطنبول.
على الرغم من قِصر مدة حكمه، فإن شخصية مراد الخامس تظل مهمة لفهم طبيعة الصراع السياسي والفكري في الدولة العثمانية أواخر القرن التاسع عشر، بين تيار إصلاحي متأثر بالفكر الأوروبي، وتيار محافظ يخشى من تسارع التغيير. كما أن انتماءه إلى الماسونية، وتأثره العميق بالثقافة الفرنسية، جعلا من سيرته نموذجًا فريدًا لسلاطين آل عثمان.
اقرأ أيضًا:
هل التحق السلطان مراد الخامس بالجمعية الماسونية؟
نعم، تُجمع أغلب المصادر التاريخية الحديثة على أن مراد الخامس انتسب إلى الماسونية خلال فترة شبابه وولاية عهده، ويُعد أول وأشهر من انتسب إليها من بين سلاطين آل عثمان. وقد ساهم هذا الانتماء، إلى جانب أفكاره الإصلاحية المتأثرة بالثقافة الأوروبية، في زيادة الجدل حول شخصيته ودوره السياسي في تاريخ الدولة العثمانية.






