|

السلطان محمد الخامس العثماني (محمد رشاد): حياته، حكمه ودوره في الحرب العالمية الأولى

السلطان محمد رشاد

السلطان محمد الخامس العثماني، المعروف بلقبه السلطان محمد رشاد، هو السلطان الخامس والثلاثون للدولة العثمانية والخليفة التاسع والتسعون للمسلمين، حكم الإمبراطورية في واحد من أكثر عصورها اضطرابًا؛ إذ تزامن عهده مع خلع السلطان عبد الحميد الثاني واندلاع الحرب العالمية الأولى، وسط صعود نفوذ جمعية الاتحاد والترقي وتراجع سلطة السلاطين التقليدية.

تولى السلطان محمد رشاد العرش بعد خلع جمعية تركيا الفتاة للسلطان عبد الحميد الثاني سنة 1909، واستمر حكمه قرابة تسع سنوات حتى وفاته عام 1918. وعلى الرغم من أن سلطته السياسية كانت محدودة إلى حدٍّ كبير، فإن عهده شهد أحداثًا مفصلية مثل دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى وخسارة معظم أراضيها العربية والبلقانية.

السلطان محمد الخامس العثماني السلطان محمد رشاد

نسب وعائلة السلطان محمد الخامس العثماني

ينتسب السلطان محمد الخامس إلى العائلة العثمانية الحاكمة، واسمه الكامل حتى أرطغرل غازي هو:

السلطان محمد الخامس رشاد بن عبد المجيد الأول بن محمود الثاني عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع بن إبراهيم الأول بن أحمد الأول بن محمد الثالث بن مراد الثالث بن سليم الثاني بن سليمان القانوني بن سليم الأول بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح بن مراد الثاني بن محمد الأول جلبي بن بايزيد الأول بن مراد الأول بن أورخان غازي بن عثمان بن أرطغرل.

وُلِد السلطان محمد رشاد في إسطنبول عام 1844، وهو ابن السلطان عبد المجيد الأول. نشأ في قصور إسطنبول في بيئة عثمانية محافظة، وتلقى تعليمه في العلوم الإسلامية التقليدية والفقه والتفسير والحديث، إلى جانب الأدب الفارسي والتركي، وفق التقاليد الكلاسيكية لنظام المدرسة العثمانية والمؤسسات التعليمية العثمانية العليا مثل مدرسة اندرون العثمانية.

تزوج السلطان محمد الخامس أربع زوجات، وأنجب منهن ثلاثة أبناء وبنتًا واحدة:

  • السيدة كاموراس، ورُزِق منها بالأمير محمد ضياء الدين.
  • السيدة مهرانجيز، ورُزِق منها بالأمير عمر حلمي ورئيفة سلطان.
  • السيدة دورودان، ورُزِق منها بالأمير محمود نجم الدين.
  • السيدة دل فريب، ولم يُذكر أنها رُزِقت بأبناء.
السلطان محمد رشاد

حياة السلطان محمد رشاد قبل السلطنة

عاش محمد رشاد وليًا للعهد في عزلة نسبية عن الحياة السياسية؛ إذ قضى سنوات طويلة تحت الرقابة في قصر يلدز خلال حكم السلطان عبد الحميد الثاني، ويُذكر أنه أمضى نحو تسع سنوات في حبس شبه انفرادي بصفته وليًا للعهد. خلال هذه الفترة انصرف إلى المطالعة ودراسة الشعر على الطراز الفارسي القديم، واهتم بالتاريخ العثماني والإسلامي اهتمامًا كبيرًا.

تلقى تعليمه على أيدي علماء الدولة العثمانية في المواد الإسلامية التقليدية والأدب الفارسي، وأبدى ميلًا واضحًا إلى الهدوء والتصوف والابتعاد عن الصراعات السياسية المباشرة، الأمر الذي انعكس لاحقًا على أسلوب حكمه وطريقة تعامله مع جمعية الاتحاد والترقي.

بعد إعلان النظام الملكي الدستوري الثاني في الدولة العثمانية عام 1908، بدأ ولي العهد محمد رشاد في المشاركة في الاحتفالات الرسمية بصفته وليًا للعهد، مستخدمًا الاسم الفخري “دولتي نقابتي ولي عهد سلطانة رشاد أفندي” وفقًا للبروتوكول المعمول به آنذاك.

السلطان محمد رشاد في شبابه

فترة حكم السلطان محمد الخامس

بدأ عهد السلطان محمد الخامس في 27 أبريل 1909، بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني على يد جمعية تركيا الفتاة (الاتحاد والترقي). وبموجب نظام الملكية الدستورية، تنازل السلطان عمليًّا عن معظم صلاحياته للجنة الاتحاد والترقي، فأصبح الحكم الفعلي في يد قادة الحزب، بينما ظل السلطان رمزًا دينيًّا ودستوريًّا أكثر منه حاكمًا مطلقًا.

تولى السلطان رشاد الحكم في سن الرابعة والستين، ليُعد من أكبر السلاطين العثمانيين سنًّا عند اعتلاء العرش في تاريخ الدولة. ومع ذلك، فإن أكبر سلاطين العثمانيين سنًّا عند وفاتهم – بحسب الدراسات التاريخية حتى عام 2024 – هو أورخان غازي الذي عاش نحو 79 عامًا، ويليه السلطان عبد الحميد الثاني (حوالي 75 عامًا) ثم السلطان سليمان القانوني (نحو 71 عامًا).

بعد توليه الحكم، وفي الخطاب الذي ألقاه بعد دعاء البيعة، قال السلطان:

أنا أول سلطان للحرية وأنا مفتخر بهذا.

لذلك أُطلِق عليه لاحقًا لقب “سلطان المشروطية” في إشارة إلى ارتباط اسمه بالدستور العثماني والحياة البرلمانية.

كان تغيير قصر الإقامة ومواكب الجمعة من أوائل قراراته كسلطان؛ إذ غادر قصر يلدز، الذي كان مقر إقامة السلطان عبد الحميد الثاني، ليستقر في قصر دولما بهجة المطل على البوسفور. ومن هناك صار يخرج في المواكب الرسمية لصلاة الجمعة، في مشهد رمزي يؤكد استمرار هيبة السلطان رغم تراجع سلطته الفعلية.

العلاقة مع جمعية الاتحاد والترقي

حكم السلطان محمد الخامس في ظل نفوذ قوي لجمعية الاتحاد والترقي التي سيطرت على البرلمان والحكومة والجيش. ورغم محاولته الحفاظ على دور توافقي يوازن بين التيارات المختلفة، فإن قرارات الدولة الكبرى – خصوصًا ما يتعلق بالحرب والسلام والسياسة الخارجية – كانت تُتَّخَذ من قِبل قادة الاتحاد والترقي، مثل أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا.

سعى السلطان، بصفته خليفة للمسلمين، إلى التركيز على رمزيته الدينية أكثر من دوره السياسي، فاهتم بالمظاهر الدينية الرسمية، وزار عددًا من الولايات العثمانية في تراقيا وألبانيا والمدن الأوروبية في الإمبراطورية بهدف التقارب مع رعاياه وتعزيز وحدة الدولة المتعددة الأعراق والأديان.

السلطان محمد رشاد والحرب العالمية الأولى

عارض السلطان محمد الخامس في البداية دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا والنمسا والمجر، مدركًا ضعف الإمبراطورية وتراجع قدراتها العسكرية والاقتصادية. لكن قيادة الاتحاد والترقي دفعت البلاد إلى التحالف مع قوى المركز، فدخلت الدولة الحرب في خريف عام 1914، بينما لم يكن للسلطان سوى دور شكلي في اتخاذ القرار.

يُعد أبرز عمل رمزي قام به السلطان خلال الحرب إعلانه الجهاد ضد قوات الحلفاء، ودعوته المسلمين في العالم إلى التصدي للاحتلال الإنجليزي والفرنسي والروسي. كان لهذا النداء أثر دعائي وديني كبير، خاصة في الولايات العربية وفي مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي.

السلطان محمد الخامس العثماني

خلال سنوات الحرب، خاضت الدولة العثمانية معارك كبرى على عدة جبهات؛ حققت فيها انتصارات مهمة مثل معركة جناق قلعة، لكنها منيت في المقابل بهزائم قاسية أدت إلى فقدان مساحات واسعة من أراضيها. فقدت الدولة سيطرتها على معظم ولاياتها العربية، بما في ذلك مناطق واسعة من الشام والعراق والحجاز ومصر العثمانية، كما سقطت القدس العثمانية في يد القوات البريطانية عام 1917، في ضربة رمزية قوية لمكانة الخلافة العثمانية.

استضاف السلطان محمد الخامس القيصر فيلهلم الثاني، قيصر ألمانيا، في إسطنبول في 15 أكتوبر 1917، في زيارة هدفت إلى تعزيز التحالف بين الدولتين ورفع الروح المعنوية في ظل اشتداد ضغوط الحرب. لكن هذه الجهود لم تمنع تدهور الأوضاع العسكرية والاقتصادية داخل الدولة.

مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت الدولة العثمانية قد خسرت معظم أراضيها خارج الأناضول، وتعرضت لدمار اقتصادي وبشري كبير. وبعد وفاة السلطان محمد رشاد بعدة أشهر، دخلت قوات الحلفاء إسطنبول في نوفمبر 1918، واضعة بذلك الأساس لمرحلة الاحتلال وتقسيم تركة “رجل أوروبا المريض”.

وفاة السلطان محمد رشاد وإرثه

توفي السلطان محمد الخامس في قصر يلدز في 3 يوليو 1918 عن عمر يناهز 73 عامًا بسبب قصور في القلب، وذلك قبل أربعة أشهر تقريبًا من نهاية الحرب العالمية الأولى. ويقع قبره في منطقة أيوب في مدينة إسطنبول، في جوار عدد من قبور السلاطين والعلماء العثمانيين.

بعد وفاته، تولى حكم السلطنة بعده السلطان محمد السادس، والملقب بالسلطان وحيد الدين، والذي كان آخر من جمع بين لقبي السلطان والخليفة في الدولة العثمانية.

يُمثِّل عهد السلطان محمد الخامس المرحلة ما قبل الأخيرة في تاريخ الدولة العثمانية؛ ففي مرحلته اكتملت مظاهر الضعف البنيوي للإمبراطورية التي أسسها عثمان الأول قبل أكثر من ستة قرون، كما تجسدت فيه إشكالية الجمع بين الشرعية الدينية للخلافة الإسلامية والواقع السياسي الذي فرضته الأحزاب والحركات القومية الحديثة.

ورغم أن السلطان محمد رشاد لم يكن صاحب قرار سياسي مستقل في أغلب فترات حكمه، فإن شخصيته الهادئة، وتديُّنه، وتمسُّكه بالرمزية الدينية للخلافة، جعلته محورًا مهمًّا لفهم السنوات الأخيرة من تاريخ الدولة العثمانية، وتمهيدًا لقيام الجمهورية التركية لاحقًا بقيادة مصطفى كمال أتاتورك.

موضوعات ذات صلة